مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

تاريخ صناعة الحرير.. الدودة التي تكسو أجساد الناس

وفق ما ورد عن المؤرخين فقد اقترنت صناعة الحرير ببلاد الصين لأن دودة القز المنتجة لخام الحرير (القزازة) قد دخلت إلى منطقة حوض نهر التاريم الصيني للمرة الأولى عن طريق التهريب في عام 419 بعد الميلاد. ويروي المؤرخون المسلمون في القرن العاشر أن الصين كانت مشهورة بإنتاج الحرير منذ أزمنة خلت حيث انتشرت صناعة الحرير خارج الصين من الناحية الغربية للبلاد. وحسب السجلات التاريخية البيزنطية فإن دود القز قد أدخل إلى مدينة بيزنطة عام 552 بعد الميلاد بعد تهريبه في رحال المسافرين القادمين من الصين إلى الأراضي البيزنطية.
وبعد مرور عشر سنوات على إدخال دودة القز عبر التخوم البيزنطية أصبحت صناعة وإنتاج الحرير ونسجه حكراً على الطبقات الحاكمة والأباطرة مما تسبب في انتشار البطالة في مختلف البلدان وبخاصة في أوساط العمال والحرفيين المتخصصين في هذه المهنة خصوصاً في مدينتي صور وبيروت في لبنان.
وحسب المصادر العربية فإن صناعة المنسوجات الحريرية في بلاد فارس قد بدأت في عهد الملوك الساسانيين في إيران، وبالتحديد في عهد الملك شهبور الأول الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، وعلى أي حال فقد ورد في الشاهنامة الإيرانية (تاريخ الملوك) بعض التفاصيل المهمة عن صناعة الحرير في إيران. وحسب القصص الواردة في الشاهنامة؛ فإن الرخاء قد عم إحدى المدن الواقعة في الجنوب الغربي من البلاد بعد العثور على دودة سحرية عثرت عليها إحدى الفتيات داخل تفاحة، ثم قامت الفتاة بوضع الدودة داخل حقيبتها وكان بها مغزل، وبفضل الدودة وحسب التفاصيل الواردة في الشاهنامة فقد استطاعت الفتاة أن تنتج كمية مضاعفة من الغزل والخيوط القطنية في ذلك اليوم، وعلى ما يبدو أن الدودة قد ساعدت الفتاة في ذلك الأمر. وقد قامت الفتاة بإطعام الدودة وتغذيتها من أجل أن تنتج المزيد من الخيوط والنسيج الذي عاد بالخير والنفع والثراء على المدينة بأسرها. وبعدما تحولت الدودة إلى مخلوق عملاق ازداد إنتاجها من خيوط النسيج الساحرة، كما ازداد الرخاء في البلاد مما جعلها مطمعاً للآخرين. وحسب الرواية الأسطورية سالفة الذكر؛ فإن الشاه (أردشير) (226 - 240 ميلادية) قد هاجم المدينة واستولى عليها ثم تمكن من الإمساك بالدودة المتوحشة بعدما صب القصدير والرصاص المصهور في حلقها مما أدى إلى موتها. ولذلك استطاع الشاه الحصول على كميات كبيرة من الخيوط الحريرية التي كانت في بطنها.
وهناك إشارات عابرة وردت في مرسوم أصدره الإمبراطور الروماني (دقلديانوس) عام (301 ميلادية) يشير فيه إلى النساجين المصريين الذين كانوا يعملون في قطاع غزل ونسج الحرير، مما يؤكد أن هذه الصناعة قد أدخلت إلى الشرق الأوسط في الأزمنة الغابرة.
ولقد انتشرت صناعة غزل ونسج الحرير والتجارة في الخيوط الحريرية المستخرجة من ديدان القز مع بداية الفتوح الإسلامية حتى وصلت إلى إيطاليا في القرن العاشر الميلادي عن طريق إسبانيا بعدما فتحها المسلمون. ويتبين من خلال دراسة جغرافية بعض البلدان ومواردها ومصادر الدخل فيها أن ثمة طفرة في إنتاج الحرير ظلت قائمة حتى القرن الثالث عشر الميلادي عندما احتكرت دول الشرق الأوسط تجارة الحرير مع أوروبا. وفي القرن الخامس عشر الميلادي وإثر التطورات المهمة في مجال الطاقة المائية استطاع صناع الحرير في إيطاليا تحطيم الأسعار وتقليل اعتماد السوق على الحرير المستورد من البلدان الإسلامية، وعلى الرغم من ذلك فقد كان الإيطاليون يفضلون استخدام خيوط الحرير الإيراني الثقيلة الوزن، ذات النوعية الممتازة في صناعة المنسوجات الحريرية المحلية. ويبدو ذلك واضحاً من المصطلحات المشتقة من اللغة الفارسية الخاصة بالمنسوجات الحريرية التي كانت تنتج في جنوة (في إيطاليا) مثل (سيتا جيلا) أو (الحرير الغيلاني) و(سيتا مازندروني) أو (الحرير المازاندراني).
في عام 1670 اشترت شركة الهند الشرقية بمفردها من إيران حوالي 2.7 مليون كيلوجرام من الحرير الإيراني، ولكن القلاقل السياسية في مطلع القرن الثامن عشر، علاوة على تفشي الأمراض في دود القز في أواسط الستينيات من القرن التاسع عشر أدى إلى تدمير صناعة الحرير الإيطالي تماماً. وبعد ذلك استطاع الإيطاليون إدخال معدات نسيج حديثة تعمل بالبخار، كما استطاعوا الحصول على أعداد كبيرة من بيض دود القز الخالي من الأمراض وحاولوا إعادة الصناعة الحريرية إلى عهدها الأول، ولكن بعد فوات الأوان فقد تمكن المستوردون الأوروبيون من الوصول إلى أسواق جديدة والتعامل مع منتجين آخرين.
أما بالنسبة للمنتجات الحريرية في تركيا فإن مدينة (بورصة) الواقعة في شمال غرب الأناضول كانت مركزاً مهماً لتجارة وصناعة المنسوجات الحريرية. وفي عام 1504 كانت المدينة بمفردها تنتج حوالي تسعين صنفاً من أصناف الحرير الفاخر. ثم أدخلت دودة القز إلى المنطقة فيما بعد وبالتالي أصبحت منتجات المنسوجات الحريرية بالإضافة إلى خام الحرير المستخرج من دود القز يمثلان إحدى دعامات الاقتصاد العثماني منذ ذلك الحين وعلى مدار ثلاثة قرون لاحقة. ولكن مع تبدل خطوط الموضة والأزياء وتغير أذواق الملابس في مطلع القرن التاسع عشر تراجع الطلب على المنسوجات المحلية المصنوعة من الحرير مما أدى إلى بعض التداعيات السلبية على نمو الاقتصاد في البلاد. وبالرغم من اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المنتجات المحلية من جميع أنواع المنسوجات، بالإضافة إلى إدخال الميكنة إلى تلك الصناعة الحيوية إلا أن ذلك لم يفلح في الحد من تراجع الاقتصاد بسبب كساد صناعة المنسوجات الحريرية. وفي عام 1913 كانت مصانع النسيج في مدينة (بورصة) لا تستخدم سوى ما يعادل 6 % من إجمالي الإنتاج المحلي من الحرير.
ونظراً لأهمية المنتجات الحريرية فقد قام العديد من الخبراء المسلمين بدراسة دودة القز مثل (الدميري) (المتوفي في عام 1405) والذي نقل عنه ما يلي: تتغذى دودة القز على أوراق شجر التوت الأبيض حتى تصبح في حجم إصبع اليد، ثم يتحول لونها تدريجياً من اللون الأسود إلى الأبيض. وتستغرق هذه العملية مدة شهرين، ثم تبدأ بعد ذلك في نسج شرنقة حول نفسها باستخدام المادة الحريرية المستخرجة من فمها، وتظل دودة الحرير داخل الشرنقة لمدة عشرة أيام حتى تنتهي من فرز المادة الصمغية التي يتشكل منها الحرير، وبعد ذلك توضع الشرانق تحت أشعة الشمس لمدة يوم أو بعض يوم حتى تموت اليرقات بداخلها. ويمكن تغطية الشرانق بطبقة من الملح أو تعريضها للبخار -بدرجة معينة ومحسوبة- من أجل قتل اليرقات بداخلها. بعد ذلك تنقع الشرانق في ماء مغلي مخلوط باللبن الرائب مما يؤدي إلى تفكيك الشرانق وإزالة اليرقات، ثم تبدأ عملية لف خيوط الحرير على بكرات يدوية أو باستخدام معدات حديثة للقيام بتلك المهمة، ويبلغ طول الخيوط الحريرية المستخرجة من كل شرنقة قرابة كيلومتر طولي، وبعد الانتهاء من عملية المط واللف تُفتل الخيوط بصورة لولبية على شكل جدائل.

pantoprazol 60mg oforsendelse.site pantoprazol iv
ذو صلة